الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والعم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل. فمن قائل بالأول لقوله: {صراطك المستقيم} وصراط الله المستقيم هو دينه الحق. ومن قائل بالثاني لقوله: {فبما أغويتني} فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغوايه فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضًا الإغواء بزعم الخصم، قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دنيه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض. إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضًا بدليل قوله تعالى: {فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم} [الصافات: 162] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم: يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جاريًا مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب. وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمرًا من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق. وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأب ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب. فلو كان إله العالم مراعيًا لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها. أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها {من بين أيديهم} أي أشككهم في صحة البعث والقيامة {ومن خلفهم} ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية. وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها، وثالثها قول الحكم والسدي {من بين أيديهم} يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها {ومن خلفهم} الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك.وأما قوله: {وعن أيمانهم وعن شمائلهم} فقيل: {عن أيمانهم} في الكفر والبدعة {وعن شمائلهم} في أنواع المعاصي. وقيل: {عن أيمانهم} في الصرف عن الحق {وعن شمائلهم} في الترغيب في الباطل. وقيل: {عن أيمانهم} افترهم عن الحسنات {وعن شمائلهم} أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري: وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين. وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس. وقال حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعًا هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية: إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: {من بين أيديهم} وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله: {ومن خلفهم} وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن. ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر. فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة. وقيل: {من بين أيديهم} الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد {ومن خلفهم} شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى، {وعن إيمانهم} الترغيب في ترك المأمورات {وعن شمائلهم} الترغيب في فعل المنهيات. وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا} [طه: 82] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} [سبأ: 54] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام. فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل» وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} [الإسراء: 64] وبقي هاهنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال: {من بين أيديهم ومن خلفهم} بحرف الابتداء {وعن أيمانهم وعن شمائلهم} بحرف المجاورة؟ قال في الكشاف: وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع. يقال: جلس عن يمينه وعلى يمينه، فمعنى على أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى عن أنه جليس متجافيًا عن صاحب اليمين منحرفًا عنه غير ملاصق له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدئ الرمي منها، وكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئته من الليل تريد بعض الليل، وقال بعض المفسرين: خص اليمين والشمال بكلمة عن لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17] والشيطان لابد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف. وقالت الحكماء {من بين أيديهم ومن خلفهم} هما الوهم والخيال كما مر والناشيء منهما العقائد الباطلة والكفر {وعن أيمانهم وعن شمائلهم} الشهوة والغضب والناشيء منهما الأفعال الشهوية والغضبية. وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة عن تنبيهًا على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا:يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق. قلت: هذا منافٍ لما في الحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» أما قوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} فسئل أنه من باب الغيب فكيف عرف؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين.وقال آخرون: إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازمًا على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله: ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه} [سبأ: 20] {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]. وقيل: إن للنفس تسع عشرة قوة: الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم. وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لاسيما وهي في أول الخلقة تكون قوية، والعقل يكون ضعيفًا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} {قال} الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك {اخرج منها مذؤمًا مدحورًا} الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل: لا تعدم الحسناء ذامًا. واللام في {لمن تبعك} موطئة للقسم و{لأملأن} جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط. وعن عصام {لمن تبعك} بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله: {لأملأن جهنم} فغلب ضمير المخاطب كما في قوله: {إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] أي إنكم وإنهم على هذا. فقوله: {لأملأن} في محل الابتداء {ولمن تبعك} خبره. قال القاضي: كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار. وأجيب بشرط عدم العفو. قوله: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} الآية. فيها من المسائل أن قوله: {اسكن} أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف. وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض. وأن قوله: {وكلا} أمر إباحة لا أمر تكليف. وأن قوله: {ولا تقربا} نهي تنزيه أو نهي تحريم وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت. وأن ذلك الذنب كان صغيرًا أو كبيرًا. وأن الظلم في قوله: {فتكونا من الظالمين} بأي معنى هو؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة {فوسوس لهما الشيطان} الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضًا بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم كالزلزال. ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى. فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلامًا خفيًا يكرره {ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما} قيل: اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهر عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك، وقيل: لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته.وقوله: {ووري} مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة. ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه {قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله: {إني لكما لمن الناصحين}. سؤال: كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكًا عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبته لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسدًا. وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله: {أو تكونا من الخالدين}. قال الواحدي: كان ابن عباس يقرأ {ملكين} بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة. ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهرًا نورانيًا مقره العرش والكرسي. نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن: إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله؟ فقال الحسن: معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين. أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر. ويمكن أن يقال: لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذٍ. ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعًا ولا ظنًا وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال. ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير. سؤال: المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس؟ والجواب كأنه قال لهما: أقسم بالله إني لكما ناصح وقالا له: نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم {فدلاهما بغرور} أي أوقعهما فيما أراد من تغرير، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه.
|